الأسباب
السياسة المعروفة لثورة 1919، كانت بمثابة الفتيل، بينما كانت النار تعتمل
داخل نفوس المصريين، وبوجه خاص، شرائح اللفلاحين والعربان، حتى أن سعد
زغلول ورفاقه، فوجئوا هم أنفسهم بالثورة، ولم يُصدقوها، بل واعتبرها سعد في
البداية، نوع من المناورة من جانب الإنجليز.
كان اندلاع الثورة في المدن في التاسع من مارس1919، إشارة بدء للريف والعربان، وبرغم ما قيل، عن وجود زعامات محلية مُحرضة، تؤكد الوثائق، والمراسلات الخاصة بالبوليس على عفويتها، فلم تمر أربعة أيام فحسب على اندلاع الثورة، حتى انتشرت في جميع المديريات، مع الأخذ في الحسبان، حالة التخلف الشديدة، في وسائل الاتصال والإعلام.
كان لسياسات الاحتلال، وما ذاع، خلال الثورة بوجه خاص، عن الممارسات القمعية للجيش البريطاني، وانتهاك الجنود لحرمات البيوت، من بين أسباب إثارة البدو، وكانت الصلات العشائرية بين البدو، برغم من انتشارهم في أرجاء البلاد، عاملاً إيجابيًا، في مصلحة الثورة، فقبائل "الجوابيص" و"الحربي" و"البراعص" و"سمالوس" و"الرماح"، من وسط الوادي، ترتبط بقبائل "السعادي" أو "المرابطين"، في الساحل الشمالي الغربي، ونجد قبائل من بدو الفيوم، تهب لنصرة أخوانهم في البحيرة. كما كان خبر اعتقال "حمد الباسل باشا " من قبيلة الرماح، الذي عُدّ زعيما روحيًا لجموع العربان، بحيث طالبوا بأن يكون ممثلا عنهم في البرلمان، من أسباب تصعيد المواجهة، من المظاهرات والحشود، إلى الاشتباك المسلح.
كان الاحتلال البريطاني قد عمل، كما ذكرنا، على التوطين الجبري للبدو، مما أدى إلى تمزيق الكثير من العشائر، وإلى عزل الكثير منها، وبشكل أبرز، بدو سيناء، عن مجريات الأمور، لذا، فقد كان النصيب الأوفر في مشاركة البدو في الثورة، من نصيب بدو الأقاليم الوسطى من وادي النيل. وقد اتسم نشاطهم، على وجه الخصوص، بأنه كان أكثر قوة وعنف، حيث توجهوا إلى معسكرات وثكنات الجيش البيطاني، ومقار البوليس، مما أربك الجيش البريطاني، الذي ألقى بثقله في معركته ضد العربان، إلا أنه لم يفلح في القضاء عليهم، بل وتحول في كثير من المديريات إلى وضع الدفاع، مثلما حدث في بني سويف، حينما انتشر الفزع بين الجنود الهنود، وانتهى الأمر بالبريطانيين بالاحتماء بثلاثة منازل في المدينة.
برغم من عفويتها، لم تفتقر الثورة إلى التنظيم، ففي دمنهور، على سبيل المثال، وبينما كاد الثوار، الذين انضم العربان إليهم، أن يفتكوا بمدير المديرية، "إبراهيم حليم باشا"، الذي تطاول على الثوار بألفاظ جارحة، انقسم الثوار إلى عدة مجموعات، فتوجهت مجموعة للسيطرة على المباني الإدارية والنيابة والمحكمة ومحطة السكة الحديد، وأخرى للسجن والبندر، أما الثالثة، فكانت مهمتها الحفاظ على الأرواح والأموال المدنية. وكانت تلك الأحداث محركا للعربان في كوم حمادة، والدلنجات، وأبو المطامير، وحوش عيسى، كما حاول مائتا بدوي تدمير كوبري كفر الدوار، فقام طابور كامل من الجيش البريطاني، باعتقال أكثر من ألف من الثوار والعربان، وقتل اثنا عشر منهم.
في "الواسطي"، كانت الثورة أشد عنفا، وهناك إشارات إلى دعم بعض رجال البوليس المصري للبدو، ومدّهم بالسلاح، فقامت هذه القبائل من البدو سالفة الذكر بقطع السكك الحديدية، واشتد القتال، حتى تحول الفصيل الهندي، التابع للقوات البريطانية، مثلما حدث في بني سويف، من مهاجمة الثوار، إلى الدفاع، فدفعت السلطات بفصيل مصري، لاقى نفس المصير. وقد قامت السلطات باعتقال 181من البدو والفلاحين، وعقدت محاكمة فورية، أدانت فيها 67منهم. أدت أحداث الواسطي، إلى اعتراف البريطانيين بفداحة الموقف، الأمر الذي كانوا يحاولون إنكاره قبلها.
أخذ الموقف في الفيوم، مسقط رأس "حمد الباسل باشا"، شكلا أكثر تنظيمًا، فمن ناحية، هاجم العربان مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، ونشبت معركة مع الإنجليز، راح ضحيتها أربعمائة من البدو، الذين لم يأبهوا لإنذارات قائد القوات البريطانية، واتسع هجومهم ليشمل ممتلكات الأعيان الموالين للاحتلال. ومن ناحية أخرى، وفي خطوة غير مسبوقة، تضامن البدو مع الفلاحين، فقدم 31من العُمد و26مشايخ العربان استقالتهم في 16مارس1919، وأعلنوا تحللهم من تقديم "المستحقات الميري من الأموال والحبوب".
البرجوازية البدوية
كانت بعض الشرائح من البدو قد استقرت في فترات مبكرة، واندمجت في ركب الدولة، فكونت ملكيات واسعة، مثل عائلات "أباظة" و"الشريعي" و"الشواربي"، على الرغم من أن "أحمد أباظة" في الشرقية، و"إبراهيم الشريعي" في المنيا، كانا من مناصري عرابي. إلا أنه بمرور السنين، وفي ضوء اختصاص السلطة للأعيان، بالمنح والعطايا، من الأموال والأراضي، انسلخ هؤلاء عن الحركة الشعبية، واستمرأوا العيش في كنف الاحتلال، كما استطاع أبنائهم الالتحاق بالسلك الإداري للدولة.
بناء على ما سبق، اقتصرت المشاركة في ثورة 1919، على الشريحتين، الوسطى والدنيا، من البدو، بينما تبنت الشريحة العليا دور القيام بـ"المساعي الطيبة" لتهدئة الثورة، فقام "محمد الشريعي" في سمالوط بنشر بيان يطالب الأهالي "بالهدوء ورفض الفوضى والإخلال بالأمن، الذي يضر بالقضية الوطنية..."، كما تشكلت لجنة "تهدئة الخواطر" في الشرقية من ثلاثة من كبار المُلاك من عائلة "أباظة". وقد أشاد وزير الخارجية البريطاني " اللورد كيرزون"، في خطابه أمام مجلس اللوردات في 14مارس1919، بدور عقلاء الامة والأعيان..."
مثلما حدث عقب ثورة عرابي، قامت سلطات الاحتلال، بعدما استتب الأمر، بمحاكمات واسعة، وقد كانت الأحكام الموجهة للبدو، بشكل خاص، غيابية، إما لإفلات بعضهمن أو عدم قدرة البوليس على اعتقالهم، من بين عشائرهم، بينما قامت السلطات، بالتواطؤ مع بعض العمد والمشايخ باعتقال بعض المستضعفين من العربان والفلاحين.
كان اندلاع الثورة في المدن في التاسع من مارس1919، إشارة بدء للريف والعربان، وبرغم ما قيل، عن وجود زعامات محلية مُحرضة، تؤكد الوثائق، والمراسلات الخاصة بالبوليس على عفويتها، فلم تمر أربعة أيام فحسب على اندلاع الثورة، حتى انتشرت في جميع المديريات، مع الأخذ في الحسبان، حالة التخلف الشديدة، في وسائل الاتصال والإعلام.
كان لسياسات الاحتلال، وما ذاع، خلال الثورة بوجه خاص، عن الممارسات القمعية للجيش البريطاني، وانتهاك الجنود لحرمات البيوت، من بين أسباب إثارة البدو، وكانت الصلات العشائرية بين البدو، برغم من انتشارهم في أرجاء البلاد، عاملاً إيجابيًا، في مصلحة الثورة، فقبائل "الجوابيص" و"الحربي" و"البراعص" و"سمالوس" و"الرماح"، من وسط الوادي، ترتبط بقبائل "السعادي" أو "المرابطين"، في الساحل الشمالي الغربي، ونجد قبائل من بدو الفيوم، تهب لنصرة أخوانهم في البحيرة. كما كان خبر اعتقال "حمد الباسل باشا " من قبيلة الرماح، الذي عُدّ زعيما روحيًا لجموع العربان، بحيث طالبوا بأن يكون ممثلا عنهم في البرلمان، من أسباب تصعيد المواجهة، من المظاهرات والحشود، إلى الاشتباك المسلح.
كان الاحتلال البريطاني قد عمل، كما ذكرنا، على التوطين الجبري للبدو، مما أدى إلى تمزيق الكثير من العشائر، وإلى عزل الكثير منها، وبشكل أبرز، بدو سيناء، عن مجريات الأمور، لذا، فقد كان النصيب الأوفر في مشاركة البدو في الثورة، من نصيب بدو الأقاليم الوسطى من وادي النيل. وقد اتسم نشاطهم، على وجه الخصوص، بأنه كان أكثر قوة وعنف، حيث توجهوا إلى معسكرات وثكنات الجيش البيطاني، ومقار البوليس، مما أربك الجيش البريطاني، الذي ألقى بثقله في معركته ضد العربان، إلا أنه لم يفلح في القضاء عليهم، بل وتحول في كثير من المديريات إلى وضع الدفاع، مثلما حدث في بني سويف، حينما انتشر الفزع بين الجنود الهنود، وانتهى الأمر بالبريطانيين بالاحتماء بثلاثة منازل في المدينة.
برغم من عفويتها، لم تفتقر الثورة إلى التنظيم، ففي دمنهور، على سبيل المثال، وبينما كاد الثوار، الذين انضم العربان إليهم، أن يفتكوا بمدير المديرية، "إبراهيم حليم باشا"، الذي تطاول على الثوار بألفاظ جارحة، انقسم الثوار إلى عدة مجموعات، فتوجهت مجموعة للسيطرة على المباني الإدارية والنيابة والمحكمة ومحطة السكة الحديد، وأخرى للسجن والبندر، أما الثالثة، فكانت مهمتها الحفاظ على الأرواح والأموال المدنية. وكانت تلك الأحداث محركا للعربان في كوم حمادة، والدلنجات، وأبو المطامير، وحوش عيسى، كما حاول مائتا بدوي تدمير كوبري كفر الدوار، فقام طابور كامل من الجيش البريطاني، باعتقال أكثر من ألف من الثوار والعربان، وقتل اثنا عشر منهم.
في "الواسطي"، كانت الثورة أشد عنفا، وهناك إشارات إلى دعم بعض رجال البوليس المصري للبدو، ومدّهم بالسلاح، فقامت هذه القبائل من البدو سالفة الذكر بقطع السكك الحديدية، واشتد القتال، حتى تحول الفصيل الهندي، التابع للقوات البريطانية، مثلما حدث في بني سويف، من مهاجمة الثوار، إلى الدفاع، فدفعت السلطات بفصيل مصري، لاقى نفس المصير. وقد قامت السلطات باعتقال 181من البدو والفلاحين، وعقدت محاكمة فورية، أدانت فيها 67منهم. أدت أحداث الواسطي، إلى اعتراف البريطانيين بفداحة الموقف، الأمر الذي كانوا يحاولون إنكاره قبلها.
أخذ الموقف في الفيوم، مسقط رأس "حمد الباسل باشا"، شكلا أكثر تنظيمًا، فمن ناحية، هاجم العربان مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، ونشبت معركة مع الإنجليز، راح ضحيتها أربعمائة من البدو، الذين لم يأبهوا لإنذارات قائد القوات البريطانية، واتسع هجومهم ليشمل ممتلكات الأعيان الموالين للاحتلال. ومن ناحية أخرى، وفي خطوة غير مسبوقة، تضامن البدو مع الفلاحين، فقدم 31من العُمد و26مشايخ العربان استقالتهم في 16مارس1919، وأعلنوا تحللهم من تقديم "المستحقات الميري من الأموال والحبوب".
البرجوازية البدوية
كانت بعض الشرائح من البدو قد استقرت في فترات مبكرة، واندمجت في ركب الدولة، فكونت ملكيات واسعة، مثل عائلات "أباظة" و"الشريعي" و"الشواربي"، على الرغم من أن "أحمد أباظة" في الشرقية، و"إبراهيم الشريعي" في المنيا، كانا من مناصري عرابي. إلا أنه بمرور السنين، وفي ضوء اختصاص السلطة للأعيان، بالمنح والعطايا، من الأموال والأراضي، انسلخ هؤلاء عن الحركة الشعبية، واستمرأوا العيش في كنف الاحتلال، كما استطاع أبنائهم الالتحاق بالسلك الإداري للدولة.
بناء على ما سبق، اقتصرت المشاركة في ثورة 1919، على الشريحتين، الوسطى والدنيا، من البدو، بينما تبنت الشريحة العليا دور القيام بـ"المساعي الطيبة" لتهدئة الثورة، فقام "محمد الشريعي" في سمالوط بنشر بيان يطالب الأهالي "بالهدوء ورفض الفوضى والإخلال بالأمن، الذي يضر بالقضية الوطنية..."، كما تشكلت لجنة "تهدئة الخواطر" في الشرقية من ثلاثة من كبار المُلاك من عائلة "أباظة". وقد أشاد وزير الخارجية البريطاني " اللورد كيرزون"، في خطابه أمام مجلس اللوردات في 14مارس1919، بدور عقلاء الامة والأعيان..."
مثلما حدث عقب ثورة عرابي، قامت سلطات الاحتلال، بعدما استتب الأمر، بمحاكمات واسعة، وقد كانت الأحكام الموجهة للبدو، بشكل خاص، غيابية، إما لإفلات بعضهمن أو عدم قدرة البوليس على اعتقالهم، من بين عشائرهم، بينما قامت السلطات، بالتواطؤ مع بعض العمد والمشايخ باعتقال بعض المستضعفين من العربان والفلاحين.